منذ أن استيقظ ذات صباح على كتاب «الحياة المشرع على باب وعيه» والكاتب السردي مسعد الحارثي مسكون بنسج أكثر من ذاكرة لتثبيت إنسانية الإنسان، إذ أنه يحمّل قلبه المتعب ومشاعره المرهفة خطورة كتابة المتجاوز واللامفكر فيه.
ربما كان لتكوينه النفسي والفلسفي دور في دخوله معترك مجابهة القناعات المجتمعية، وكسر «التابو»، ولذا سجّل حضوراً لافتاً بكتابته الساخرة في المنتديات قبل عهد الصحف الإلكترونية، حتى من نفسه.
وربما كان من أوائل كتَّاب «أدب الاعتراف»، أو كتابة الذات، فدوّن مواقفه اليومية دون وقوع في أسر التردد والخجل، ليقينه أن كل الأحكام المسبقة تفسد الفن وتخنق الحدث.
ولعله كان على وعي تام بما يفعل على مستوى ذاته، كما أنه يدرك مساحة الحرية المتاحة وتحول المجتمع من الانغلاق إلى الانفتاح، وخروج الأدب من دائرة قُطرية إلى موسوعة إنسانية.
يتحلى مسعد بقدر كبير من الشجاعة مكنته من الاعتراف، ولم يقف الخجل حائلاً دون ذكر تفاصيل حياته، وقدمها ببراءة دون حاجة إلى تزويق و«مكيجة» لتكون صورته ناصعة، أو حياته بطولات زائفة، فمن إحدى نصوصه (سكن بالقرب من بيتنا وافدون، كان لمسكنهم جدار عال، كنت أنبش كل صباح مخلفاتهم، أغراني بالون صغير بنفخه دون أن أعرف ما هو، عندما تزوجتُ وجدت البالون في غرفة نومي).
ربما ظن مسعد أنه سيظل على ذات العنفوان في تحمل أعباء وتبعات الاعترافات، شأن الغربيين (جان جاك روسو، أوسكار وايلد، وأندريه جيد) وغربيا محمد شكري، إلا أن «البحر يكذّب الغطاس»، وحساب الحقل يختلف عن حساب الجرين، وإن كان مسعد يستند إلى أسلافه الشعراء من القرنين الثالث والرابع الهجري، إذ مارسوا «أدب الاعتراف» في قصائدهم بكل شفافية، لأنه لم يكن قد ظهر حينذاك الأدب النثري، كما اعترفوا بأشياء يخجل الناس من الاعتراف بها حالياً حتى وإن كانوا يمارسونها إلا أنه لم يسلم من سهام النيل منه وتجريحه على اعترافاته (في ليلة شاتية، اقتنيتُ فيلماً سينمائياً. دعوتُ الأصدقاء للسهرة في منزلي. أطفأتُ الأنوار، جلس كل منهم في زاوية، والتحف ببطانية. أثناء عرض الفيلم العاطفي، طرق الباب، نظرتُ من فتحة صغيرة، فرأيتُ شرطياً، أخذتُ الشريط، ودفنته في كيس الدقيق، فتحتُ الباب، فاقتادني ومن معي إلى المخفر، أدخلنا إلى ضابط بشوارب كثيفة. وضع يده على كتفي، وركز بؤبؤ عينيه في ملامحي،أخذت دقات قلبي تتسارع. سألني: مين سرق التيس؟ وصرخ «اعترف بسرعة» كان قلبي يتقطع على الشريط المدفون).
في قصة الحمّال نقف على جانب من الحالة الإبداعية التي لم تنل منها مواجع أبي مجدي (كنتُ حمّالاً في مرفأ نوبي، أنقل أمتعة السياح، والعاج، والعطور، والذهب، وأبيع منشطات للبحارة البزنطيين، كنتُ.... وكنتُ، وعندما أصبحتُ مغموراً بالحب هيأت روحي لرحلة جديدة).
في قصص مسعد ورواياته نلمس الصدق الفني، وإن طغى «المونولج» الداخلي على الحوار الخارجي «ديالوج»، فالكاتب على وعي تام بما يكتب، ويملك مهارة الاحتيال على الرقيب ليمرر نصه ببراءة الذئب أمام حمل وديع خصوصاً أنك تشعر به في كل نص(نفضتُ التراب عن جبيني. آه. أين أنا، تذكّرت الحنطور الذي تركته وحيداً في شارع ممفيس، عدتُ إليه ليلاً، فوجدته صدئاً من سباب الثملين، وزفرات الراقصات، وهمسات الممسوسين بعشق القمر. تقاسمتُ الثمن مع الحصان، ورحلت).
يجرد مسعد نفسه الكاتبة من كل العوالق الحسية، ويذهب بقارئه إلى سيادة الحالة، ويطلق العنان لخياله «المتفتق» عن صور وأحداث ونهايات غير متوقعة (ولدتني حلماً في غابة الأمازون، أسمتني «تاسوس» أرضعتني قطة، وذات عام مراهق، وفي شهر شباط، سماع سكان المدينة مواء).
إن الحبل السري لقصص (أبي مجدي) يمكّنه من اللعب بالكلمات، ومداعبة أصابع الزمن، ما يؤشر إلى فنية عالية في جلد الذات لتفجير مكنون متاعب الآخرين وأمراضهم (يمشي الناس في المدينة، يجرون أذيالهم، ورؤوسهم مرفوعة بشكل مبالغ فيه. تأبطتُ ذيلي لأحافظ على سلامته).
برغم حياته في المدينة، ظل مسعد مسكوناً بالقرية، ولذا دافع عن حنينه بالكتابة لها (كان الصقر محلّقاً على أطراف القرية، نزل على مرتفع ليؤدي الصلاة، فاقتنصه قروي، واستغله طويلاً، وعندما هوى إلى الوادي تركه طعاماً للكلاب).
لعل كتاب القصة المعاصرين يشعرون بطول المسافة بين كاتب أفنى عمره في أحضان القراءة، حتى ملك لغته الخاصة، وصوته المتفرد، وأحداثه المتخيلة والساخرة (رأى في منامه ستارة مليئة بالثقوب تهبط عليه من السماء، سمع صوتاً يناديه بوضع اصبعه لنيل رزقه، اجتهد طويلاً في توسيع الثقب، وعندما استيقظ وجد أنه خرق طبلة أذنه).
عالم مسعد الحارثي «فانتازي» وفاتن ومكثف، ولعله بصدق من أمهر كتاب القصة القصيرة جداً، إلا أن متاعبه، وظروفه الصحية أعاقت مشروعه الروائي الكبير.
ربما كان لتكوينه النفسي والفلسفي دور في دخوله معترك مجابهة القناعات المجتمعية، وكسر «التابو»، ولذا سجّل حضوراً لافتاً بكتابته الساخرة في المنتديات قبل عهد الصحف الإلكترونية، حتى من نفسه.
وربما كان من أوائل كتَّاب «أدب الاعتراف»، أو كتابة الذات، فدوّن مواقفه اليومية دون وقوع في أسر التردد والخجل، ليقينه أن كل الأحكام المسبقة تفسد الفن وتخنق الحدث.
ولعله كان على وعي تام بما يفعل على مستوى ذاته، كما أنه يدرك مساحة الحرية المتاحة وتحول المجتمع من الانغلاق إلى الانفتاح، وخروج الأدب من دائرة قُطرية إلى موسوعة إنسانية.
يتحلى مسعد بقدر كبير من الشجاعة مكنته من الاعتراف، ولم يقف الخجل حائلاً دون ذكر تفاصيل حياته، وقدمها ببراءة دون حاجة إلى تزويق و«مكيجة» لتكون صورته ناصعة، أو حياته بطولات زائفة، فمن إحدى نصوصه (سكن بالقرب من بيتنا وافدون، كان لمسكنهم جدار عال، كنت أنبش كل صباح مخلفاتهم، أغراني بالون صغير بنفخه دون أن أعرف ما هو، عندما تزوجتُ وجدت البالون في غرفة نومي).
ربما ظن مسعد أنه سيظل على ذات العنفوان في تحمل أعباء وتبعات الاعترافات، شأن الغربيين (جان جاك روسو، أوسكار وايلد، وأندريه جيد) وغربيا محمد شكري، إلا أن «البحر يكذّب الغطاس»، وحساب الحقل يختلف عن حساب الجرين، وإن كان مسعد يستند إلى أسلافه الشعراء من القرنين الثالث والرابع الهجري، إذ مارسوا «أدب الاعتراف» في قصائدهم بكل شفافية، لأنه لم يكن قد ظهر حينذاك الأدب النثري، كما اعترفوا بأشياء يخجل الناس من الاعتراف بها حالياً حتى وإن كانوا يمارسونها إلا أنه لم يسلم من سهام النيل منه وتجريحه على اعترافاته (في ليلة شاتية، اقتنيتُ فيلماً سينمائياً. دعوتُ الأصدقاء للسهرة في منزلي. أطفأتُ الأنوار، جلس كل منهم في زاوية، والتحف ببطانية. أثناء عرض الفيلم العاطفي، طرق الباب، نظرتُ من فتحة صغيرة، فرأيتُ شرطياً، أخذتُ الشريط، ودفنته في كيس الدقيق، فتحتُ الباب، فاقتادني ومن معي إلى المخفر، أدخلنا إلى ضابط بشوارب كثيفة. وضع يده على كتفي، وركز بؤبؤ عينيه في ملامحي،أخذت دقات قلبي تتسارع. سألني: مين سرق التيس؟ وصرخ «اعترف بسرعة» كان قلبي يتقطع على الشريط المدفون).
في قصة الحمّال نقف على جانب من الحالة الإبداعية التي لم تنل منها مواجع أبي مجدي (كنتُ حمّالاً في مرفأ نوبي، أنقل أمتعة السياح، والعاج، والعطور، والذهب، وأبيع منشطات للبحارة البزنطيين، كنتُ.... وكنتُ، وعندما أصبحتُ مغموراً بالحب هيأت روحي لرحلة جديدة).
في قصص مسعد ورواياته نلمس الصدق الفني، وإن طغى «المونولج» الداخلي على الحوار الخارجي «ديالوج»، فالكاتب على وعي تام بما يكتب، ويملك مهارة الاحتيال على الرقيب ليمرر نصه ببراءة الذئب أمام حمل وديع خصوصاً أنك تشعر به في كل نص(نفضتُ التراب عن جبيني. آه. أين أنا، تذكّرت الحنطور الذي تركته وحيداً في شارع ممفيس، عدتُ إليه ليلاً، فوجدته صدئاً من سباب الثملين، وزفرات الراقصات، وهمسات الممسوسين بعشق القمر. تقاسمتُ الثمن مع الحصان، ورحلت).
يجرد مسعد نفسه الكاتبة من كل العوالق الحسية، ويذهب بقارئه إلى سيادة الحالة، ويطلق العنان لخياله «المتفتق» عن صور وأحداث ونهايات غير متوقعة (ولدتني حلماً في غابة الأمازون، أسمتني «تاسوس» أرضعتني قطة، وذات عام مراهق، وفي شهر شباط، سماع سكان المدينة مواء).
إن الحبل السري لقصص (أبي مجدي) يمكّنه من اللعب بالكلمات، ومداعبة أصابع الزمن، ما يؤشر إلى فنية عالية في جلد الذات لتفجير مكنون متاعب الآخرين وأمراضهم (يمشي الناس في المدينة، يجرون أذيالهم، ورؤوسهم مرفوعة بشكل مبالغ فيه. تأبطتُ ذيلي لأحافظ على سلامته).
برغم حياته في المدينة، ظل مسعد مسكوناً بالقرية، ولذا دافع عن حنينه بالكتابة لها (كان الصقر محلّقاً على أطراف القرية، نزل على مرتفع ليؤدي الصلاة، فاقتنصه قروي، واستغله طويلاً، وعندما هوى إلى الوادي تركه طعاماً للكلاب).
لعل كتاب القصة المعاصرين يشعرون بطول المسافة بين كاتب أفنى عمره في أحضان القراءة، حتى ملك لغته الخاصة، وصوته المتفرد، وأحداثه المتخيلة والساخرة (رأى في منامه ستارة مليئة بالثقوب تهبط عليه من السماء، سمع صوتاً يناديه بوضع اصبعه لنيل رزقه، اجتهد طويلاً في توسيع الثقب، وعندما استيقظ وجد أنه خرق طبلة أذنه).
عالم مسعد الحارثي «فانتازي» وفاتن ومكثف، ولعله بصدق من أمهر كتاب القصة القصيرة جداً، إلا أن متاعبه، وظروفه الصحية أعاقت مشروعه الروائي الكبير.